كم هي عذبة أيّام الصّبا بين الخمائل والأشجار المثمرة وارفة الظّلال، وافرة الاخضرار على ضفاف منابع المياه…
وسط هذه الفجوات الغابيّة المتاخمة للوادي الخصيب، عَرَفت الفجاجُ والبساتين طفلةً صغيرة حادّة الذّكاء، هي الأجمل بين أترابها سعيدة ، مرحة ،وضحكاتها البريئة تملأ الفضاء عندما ترافق صديقاتها إلى المدرسة الريفيّة البعيدة ، أو تلعب معهنّ قاطفة الثّمار على ضفاف الجداول ….
انقطعت عن الدّراسة مبكّرا كأغلب أطفال الأرياف لقلّة ذات اليد أو للسّعي والرعي… وكبرت الصّبيّة وكم كان هنالك من راغب في خطبتها ولكن تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن حيث تقرّر مسار زواجها لتذهب إلى المدينة رغم عدم اطمئنانها للحياة الصاّخبة بعيدا عن بيت أحبّته …وقد تمّ هذا القرار إثر زيارة بعض
المقرّبين من العائلة للاستجمام ربيعا في
رَبْعِهم…. وتعلّق شابّ بها وبأخلاقها الرّيفيّة
الحميدة والمتواضعة… ورغم احترازها لعدم
معرفة طباعه والموافقة المتسرّعة لعائلتها
قبلت بالأمر الواقع…. ورضخت لمشيئة
أهلها…. وتتالت الأحداث عند زياراتة التي
كانت متباعدة وانحسارها واقتصارها
على المواسم والأعياد ….حتّى أنّها كانت
تفكّر في الابتعاد عنه وفسخ الخطوبة
لإخلاله بالوعود والمواعيد وخروجه للنّزهة بالغاب بلا عودة والسّفر فجئيّا معلّلا ذلك
بكثرة مشاعله ….وهي ترى ذلك قلّة وفاء وانعدام المحبّة الصّادقة وعدم خلق فرص للتّفاهم في تفاصيل حياتهما المستقبليّة …. حتّى أنّ اليأس بدأ يتسلّل إلى قلبها وكانت تُسائل نفسها كيف يمكنها الارتباط بشخص لا تتفاهم معه ولم يكن يوما محلّ ثقتها… وما زاد في تدهور العلاقة بينهما تأفّفه من شظف العيش بالأرياف رغم كرم وسخاء أهلها، وإصراره بالتّسريع في موعد الزّفاف وقبل
حلول الصّيف …
وكان يوم العرس وكانت القشّة التي قطعت ظهر البعير… فعند توجّههما إلى سيّارة العروس
وهي لا تنفكّ التّشبث بذراعه لوعورة المسلك
هجمت مجموعة من الكلاب عليها…. الشّيء الذي جعل العريس ينفلت منها ويفرّ تاركا إيّاها
لهذه الضّواري الشّرسة وكأنّ الأقدار سلّطتها عليها لتخلّصها من مستقبل غامض في غوغاء المدينة… أسقطتها الكلاب على الأرض … مزّقت فستانها واتّسخ بالتّراب … وتناثرت ورود الباقة التي بيدها وتشعّث شعرها لمّا وقع منها تاجها
وانخرم عقدها وطار حذاءها بعيدا … وكاد أحد الكلاب أن يفتك بها لولا تدخّل الحاضرين ….
أمّا زوج المستقبل الخائف الملتاع فلقد ولّى هاربا لا يلتفت وراءه أمام اندهاش الضّيوف الّذين تمنّوْا أن يروه يظهر شجاعة تحسب له في هذا اليوم الاستثنائي ….
وبما أنّه لم يُبدِ أيّة شهامة وعزّة نفس لإنقاذها مرّت أمام عينيها الباكيتين أشرطة أفلام كلّ ما شهِدته معه من أحداث مخزية لم تَرَ فيها حنانا ولم تشتمل على لحظة رومنسيّة ورقّة تذكر… واتخذت قرار اللاّذهاب معه والعودة إلى بيت أهلها … ولم يستطع أيّ كان أن يجعلها تعدل على ذلك…… ورغم بكاء أمّها لإقناعها بإتمام مراسم الزّفاف…..
وانتهى العرس في ضجّة ويأس فاضح
وخذلان واقتناع تامّ من العروس بقرارها
لأنّها كانت على يقين أنّ واجب الزّوج أن
يكون سندا عند المصاعب والمحن …
وعموما فالرّجال عند المرأة عادة يعرفون
برباطة الجأش ومواقفهم البطوليّة الحازمة…..
المربّي الصّادق الهلالي
شاهد أيضاً
“وادي مجردة” شريان الاقتصاد للبلاد التونسية
مدن تونسية عديدة لم تكن لتؤسَّس لولا وجود وادي مجردة الذي يجري بين ضفته نهر …