يطل عم الشاذلي القايدي، وهو شيخ تجاوز عقده السابع، من شرفته كل صباح على المسبح الاولمبي المهجور الذي يتوسط مدينة عين دراهم، والمهمل منذ عشرات السنين، ذلك المسبح الذي شهد أنشطة ثقافية متعددة وسهرات فنية أثثها نجوم كبار زاروا هذه المدينة الهادئة، واستمتعوا بخضرتها وضبابها وكسائها الشتوي الأبيض، وخرير ينابيع مياهها العذبة المتدفقة، وبهدوئها الذي ينصح به الأطباء مرضاهم.
يطلق عم الشاذلي آهة عميقة وهو ينظر إلى المسبح وقد تآكل بفعل رطوبة المناخ، ونتيجة إهمال المسؤولين، وتعود به الذاكرة إلى ذلك الزمن الجميل عندما كان يشاهد مباريات السباحة التي تقام فيه، ومباريات الكرة الحديدية التي تنظم في الاماكن المحاذية له، أو الحفلات التي كان يحييها كبار النجوم في زمانهم وتستقطب المتفرجين من كل مكان.
هذا المسبح هو معلم من معالم عين دراهم التي طالها الاهمال، هذه المدينة الواقعة على بعد 180 كلم شمال غرب تونس والتي يعود إحداثها إلى أمر علي صادر في 28 جوان 1892. هي مدينة معروفة بهدوئها الذي يشعر به كل من يقصدها أو يمرّ عبر أنهجها ذات الطابع الفرنسي الدالّ على أن معمرين سكنوا فيها واستمتعوا بجمالها. وسواء كان الفصل شتاء أو صيفا فهي من المدن التي يطيب العيش فيها وهي إلى جانب ذلك معروفة باخضرار أشجارها المتنوعة وغلالها البيولوجية من قبيل الفتسق الحلبي والفطر الغابي والتين والكستنا (البوفريوة) والسواك، والتفاح الجبلي، والأجّاص واللّنج وغيرها.
هي معروفة كذلك بلون أسطحها المغلفة بالقرميد الأحمر وأبوابها ونوافذها المستطيلة الشكل التي تحتل أجزاء هامّة من جدران منازلها وبناياتها ذات الطابع الفرنسي القديم وقد باتت مهددة بالاندثار، وهي كذلك مدينة كثيرا ما يشبهها الزائرون بـ”سويسرا” تونس، فيما ينعتها أهلها بالجّنة الضائعة، بسبب طيبة أهلها وبساطتهم وهدوئها، وخضرة أشجارها، وخرير مياه عيونها التي تتدفق في جميع أنحائها.
يستحضر عم الشاذلي حفل الفنان الكبير عبد الحليم حافظ الذي احتضنه المسبح ذات ليلة صيفية من ليالي عام 1969، ويتذكر جيدا ذلك الجمهور الغفير الذي واكب الحفل، والقادم من أماكن بعيدة من مختلف جهات البلاد. ولا تغيب عن ذاكرة عم الشاذلي أيضا حفلات نجوم آخرين، في نفس هذا الفضاء، من بينهم هيام يونس، واحمد حمزة، ومرسيل خليفة، كما يستحضر أن العديد من المسؤولين في الدولة، ومن الاطارات السامية، وقبلهم المعمرون الفرنسيون أصحاب الضيعات الفلاحية في بوسالم وغار الدماء وباجة وسليانة والكاف، اتخذوا من مدينة عين دراهم مكانا يقضون فيه عطلتهم الصيفية.
على بعد 20 كلم تقريبا، وفي منتجع بني مطير كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة يقضي بعضا من الوقت في القصر الموجود بالمكان والذي تحول إلى قصر للبلدية، فيما كانت عائلته الموسعة تتخذ من إحدى الفيلات القديمة بساحة الجمهورية التي تتوسط مدينة عين دراهم والقريبة من ذلك المسبح سكنا لها، يقيمون هناك ويرتادون كبقية المواطنين فضاء المسبح البلدي، يتجولون في المدينة ليلا نهارا بلا مرافقين، ودون حراسة لافتة أو مشهودة، بحسب ما أكده عم الشاذلي.
في ذلك الزمن، يقول عم الشاذلي، لم نكن نهتم بمن يرقص، وبمن يغني، وبمن يتناول المشروبات الكحولية، أو من يأكل ما طاب له من لحم الخنزير من الفرنسيين والإيطاليين المقيمين هناك وضيوفهم السوّاح، وكانت عين دراهم مقصد التونسيين من قابس ومن صفاقس وتونس ومن عدة مناطق ساحلية، وأخرى داخلية، كانوا يقيمون ليلا في النزل والاقامات المتوفرة في المدنية ويتحولون صباحا إلى شواطئ طبرقة.
يدعونا عم الشادلي بإصرار إلى مشاهدة المسبح، وقد تم تسييجه مؤخرا لأسباب يجهلها، وهو العليم بكل ما يستجد في تلك المدينة التي يطيب لزائريها بأن ينعتوها بالجنة الضائعة، ويقف متاسفا على ما طال المسبح من إهمال وسرقات لابواب غرفه وبلوره المستورد وبقية مكوناته.
يبتسم الى حد الضحك والاستهزاء عندما يشاهد تلك الشجرة التي نبتت في قلب المسبح والتي تقف شاهقة شاهدة على مدى الاهمال والنسيان، وكذلك شجرة التين التي نبتت في قلب المسبح لا تنتج تينا وكأنها تحاكي صناع القرار لتقول لهم “الإهمال لا ينتج الا العقم رغم الاخضرار ورغم حلاوة التين وفوائده”.
لازال عم الشاذلي يروي قصص وروايات تلك الذكريات الغائمة على أمل أن يستنهض حماسا يعيد للمسبح مكانته والقه وبهجته، فهو يشكل إحدى أهم منارات الجمال في ذاكرته وذاكرة كل من واكب وعايش فترته الزاهية، كان يهمس بين الحين والآخر إلى زوجته مذكرا إياها بمغازلته لها عندما جاءت تلك الليلة لتحضر حفل هيام يونس.
غابات عين دراهم وظلالها الوارفة، وخرير مياه عيونها العذبة، وبياض ثلجها، وندى ضبابها، وغزارة أمطارها شتاء، وأبراج مدافئها، وأسطحها القرميدية الحمراء، وألوان أبوابها التي جمعت بين الأحمر والأسود والأزرق والأبيض، لازالت تحتفظ بنزر من الصورة القديمة المتألقة، وهي تنشد التثمين والتجديد، وكأنها تقول بان السياحة ممكنة، والموسيقى أكثر إمكانا، والاستجمام بمياهها السّخنة والباردة أيضا متاح، ولكن بشرط أن تتحرك الهمم وتصدق العزائم.
وفي الاثناء تبقى صخرة أبي القاسم الشابّي في فيافي فج الأطلال شاهدة هي الاخرى على بيت الشعر الذي استنهض به هذا الشاعر المتفرد شعوب العالم الطامحة للحرية والتغيير وهو “ومَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر”
المولدي الزوابي